بطل سيكتب روايته، وبطل آخر كتبها ونسي: ما بين رواية قناع بلون السماء ورواية ماء العروس
- عمر الجضعي
- Oct 2
- 4 min read
اهتم البطلان في هاتين الروايتين بتخيل شخصيات في قصصهما وما سيحدث فيها، فصارا يحكيان عن أبطالهما في روايتيهما المتخيلتين. حدث هذا ونحن نقرأ ماذا يقولان في روايتيهما دون إرادة منهما. صرنا نقرأ ونفحص رواية وسط رواية؛ كأن البطلين يفتخران بروايتيهما وهما لا يعرفان أنهما ليسا إلا شخصيات في روايات كتبها آخرون. من خلال قراءة الروايتين تجد نفسك تتلصص على هذين البطلين وهما يتخيلان غيرهما؛ كأنك ترى بوعي أعلى وتكتشف تداخل البطل مع شخصيات روايته وحكمه عليها، بينما هو لا يدري أن كاتبًا حكم عليه وفضحه لنا دون أن يشعر هذا البطل بذلك.
تحكى لنا قصة نور مهدي الشهدي في رواية قناع بلون السماء للكاتب الفلسطيني باسم خندقجي، ونور هذا يعمل مرشدًا في شركة للسياحة التراثية في الأراضي المحتلة. هو مهتم بالآثار المسيحية القديمة في المنطقة، وأراد كتابة رواية عن تاريخ مريم المجدلية وآثار ما حصل ذلك الزمان. أتت رغبته لكتابة الرواية ردًا على ما قرأ في رواية شيفرة دافينشي للكاتب الشهير دان براون، الذي اعتبره أخطأ في ذكر حكاية مريم وغير الحقائق. كان أسهل رد على رواية دان براون، هو في أن يكتب رواية مقابلة لها يظهر فيها ما يراه صوابًا.
بينما الكاتب السوري خليل صويلح في روايته ماء العروس، فقد جعل البطل يحكي لنا عن وحدة التخزين الإلكتروني (الفلاش ميموري) التي لقي فيها مسودات قديمة لقصص وروايات كتبها من قبل. أخذ البطل يحكي لنا عن شخصيات قصصه المنسية وماذا كتب عنهم، دون أن يقتبس من روايته لنا. تعرض البطل لسيرة حماد الركاض الهزاع الهياب، ثم أعرض عنه وحكى سيرة بدوي آخر اسمه ساري البشير ومعاناته مع الانتداب الفرنسي ومن بعده الثورة السورية. ثم سرد نشأة ابنه إسماعيل من بعده وحكاية ماء العروس. البانيو الموضوع في الغلاف يتعلق بحكاية إسماعيل الذي كتبها بطل الرواية التي نقرأها.

أذكر الآن الروايتين مقترنتين رغم الاختلاف غير الطفيف بينهما. فأما رواية قناع بلون السماء فخرج بطلها نور يبحث في معالم الأرض ويفكر في حبكة الرواية التي سيكتبها من خلال بطلها نسيم شاكر. نسمع مرئيات نور وهو يدون في بطاقات صوتية في جواله عن كيف ستكون الرواية التي سيكتبها وكيف سيكتشف نسيم شاكر حلول الألغاز المجدلية. وأما رواية ماء العروس، فيغوص البطل يحكي عما دونه ويفسر في روايته فعل الشخصيات ولماذا جعل ذلك الرجل يحتال وماذا على ذاك أن يفعل ليخرج من ورطته. بل حتى البطل نفسه تورط في حبكة روايته عدة مرات ووصل لطرق مسدودة لا يدري كيف يجعل شخصياته تنجو من فعل وآخر. أحيانًا يكون نسي ماذا قصد من ملاحظة دونها (في وحدة التخزين الرقمي) أو اقتباس من كتاب طوق الحمامة أو بيت شعر لا يفهم مغزاه. فيبحث ويعدل ويزيد في مسوداته ما يراه مناسبًا ويخلص شخصياته أو يورطها حسبما يشاء.
رواية وسط رواية في داخلها رواية –
وما يعقد السرد ويزيده إبهامًا وإيهامًا في هاتين الروايتين، هو أننا نجد أن الرواية التي يكتبها بطل أي من الروايتين هي عن شخصية تكتب رواية أو قصة متخيلة. أي أن روايتي باسم خندقجي وخليل صويلح تحمل في قعر كل واحدة منهما رواية أخرى. القشرة الأولى هي الرواية التي نقرأها باسم الكاتبين، ثم قشرة في داخلها يكتبها بطل كل رواية، وبعدها قشرة أسمك لبطل رواية بطلنا الذي يكتبها. فنور الشهدي حين أراد كتابة رواية عن تاريخ مريم المجدلية ووضع بطل روايته نسيم شاكر، جعل نسيم شاكر يريد كتابة رواية فيها انتقال بين العالم الحاضر والعالم القديم في القرن الأول للميلاد يدرس فيها عن مريم المجدلية ويفحص مآثرها. وكذلك فعل بطل رواية ماء العروس، الذي جعل إسماعيل ساري البشير كاتبًا لقصص قصيرة استلهما من حياته وأحداث لمعاناة أبيه وقبيلته. فصرنا نخوض في تخيلات بعضها وراء بعض؛ كالدمية الروسية الشهيرة التي ما تفتأ تعيد نفسها كلما كشفت القطعة الظاهرة.
*
التداخل بين حياة نور الشهدي ونسيم شاكر بطل روايته ليس واضحًا؛ لأن نور لم يكتب روايته بعد. كان يدون بصوته في جواله ما سيفعل نسيم شاكر في روايته التي سيكتبها، لكن يظهر لنا أن نسيم شاكر سيفعل نفس ما يفعل نور في بحثه عن دلائل وحقائق تاريخية يستكشف فيها. ربما سيسلك نسيم شاكر نفس رحلات نور في القرى والمستوطنات والآبار.
بينما بطل رواية ماء العروس الذي لم يذكر لنا اسمه، فيكاد يقترب من شخصية روايته، إسماعيل، إلى درجة أنه كاد أن يراه وهو جالس في أحد مقاهي دمشق. كان يتخيل إسماعيل مجتمعًا مع مخرج أفلام اختلف معه على تحويل إحدى قصصه إلى فيلم قصير؛ كان المخرج يريد وضع نعامات أو ديكة في أحد المشاهد بدل الخرفان.
حرص بطل رواية ماء العروس على شرح قصصه القديمة وتعديلاته عليها، وقصصًا أخرى كتبها خلال أحداث الرواية صار يحكي لنا عنها؛ رغم أن تركيزه الأكبر كان على قصص إسماعيل وسيرته، وعلى سيرة أهله وأسلافه. وأما رواية قناع بلون السماء فكان هم البطل نور في روايته، التي سيكتبها عن نسيم شاكر وروايته، مرتكزًا على بحثه في موضوعه الأثري الذي رآه مهمًا ودافعًا لإيجاد حبكة الرواية التي سيجعل نسيم شاكر يكتبها.
*
تساءلت وأنا أقارن بين الروايتين: ما الذي يجعل كاتبًا يكتب رواية عن بطل يكتب رواية أخرى بطلها يكتب رواية ثالثة؟ هل هي مبالغة من الكاتب في البعد عن المباشرة في طرحه؟ أم رغبة في إيهامنا وإرباكنا نحن القراء؟ أم أن المسألة موضة كتابية استطعمها الكتاب العرب مؤخرًا لإبهار القارئ بمقدرتهم السردية وتحذلقهم الذكي؟ أم هي مجرد حالة من الإغراق في التخيل. لا أعرف حقيقة الأمر، لكن لا شك أن هذه الحيلة تجذب القارئ لما فيها من كشف وغموض في الوقت نفسه.
ربيع الثاني 1447





Comments