top of page

العضو الشرير والجسد المتغير: قصة الأنف وأشباهها

  • عمر الجضعي
  • 2 days ago
  • 4 min read

تيقظ بطل قصة من نومه واكتشف تغيرًا في جسده... هذه المعضلة موجودة في قصتين شهيرتين من كلاسيكيات عالمية في الأدب السردي. القصة الأولى هي "الأنف" للكاتب الأوكراني/الروسي نيقولاي غوغول، والقصة الثانية "التحول" للكاتب التشيكي فرانز كافكا. بطل القصة الأولى، كوفالوف العضو في المجلس البلدي في مدينته سان بيتسبيرغ الروسية، فقد أنفه ذات صباح وبدأت معضلته. وأما البطل الثاني، غريغور سامسا الموظف، فقد تحول جسده إلى حشرة كبيرة ولم يقو القعود من سريره والذهاب لعمله – وما ذاك إلا تتمة لمعضلته القديمة مع رؤسائه ومع أهله. رغم تقارب المعاناة بين بطلي القصتين، إلا أن المأساة اكتملت عند غريغور سامسا وحده، بينما معاناة كوفالوف ففرجت وبقيت السخرية شاهدة على معاناته.


لوحة مشاعة لفترة منتصف القرن التاسع عشر ويظهر فيها جسر القديس إسحاق والكاثدرائية بعده
لوحة مشاعة لفترة منتصف القرن التاسع عشر ويظهر فيها جسر القديس إسحاق والكاثدرائية بعده

بداية قصة الأنف كانت وصفًا عن تيقظ حلاق اسمه إيفان ياكوفليفيتش على رائحة الخبز الذي أعدته زوجته. حين تهيأ لفطوره ببصلة وسكين ثم قطع الرغيف المخبوز في فرنهم، تفاجأ بوجود أنف في وسطه! لم يبدأ نيقولاي غوغول قصته عند البطل الذي فقد أنفه، بل عند من وجد الأنف في لب خبزته ذلك الصباح، الحلاق البسيط الذي خسر اسم عائلته كما قال السارد دون أن يذكر السبب. أما البطل كوفالوف، صاحب الأنف المفقود، فهو على عكس الحلاق؛ رجل ثري متغطرس يعيش في قصر وعنده خدم. يملك اسمًا ليس له –ربما اشتراه بالرشوة— حيث يلقب نفسه بالرائد وصار يتباهى به، وهذا مناقض للحلاق. خرج الاثنان بعد ذهولهما من أمر الأنف وهما لا يعرفان عن بعضهما ماذا حدث: إيفان في جيبه الأنف يريد التخلص منه قبل أن تكتشف الشرطة وتتهمه بالسرقة أو الاعتداء على أحد، وكوفالوف ذهب يبحث عن أنفه ويبلغ الصحافة والشرطة بفقدانه. المفارقات والسخرية تتضاعف بعدها: ما الذي يجعل حلاقًا أن يحمل معه أنفًا؟ أهو قطع أنف أحد زبائنه؟ كيف سيتخلص منه؟ بينما صاحب الأنف، الرائد، فقد ذهب إلى صحيفة ليعلن عن فقدانه، أي سيخسر مكانته الاجتماعية ولقبه العسكري المزيف؛ بل وخاصم المسؤول حين رفض إعلان ما قد يؤثر على نزاهة الصحيفة. جعل الكاتب نيقولاي غوغول في قصته الحلاق لا يظهر إلا في بداية القصة ونهايتها؛ كأن الحلاق ما هو إلا انعكاس مضاد لوضع البطل الاجتماعي والمادي والحسي، أو هو كاشف لسخف حاله.

بينما قصة التحول فظل بطلها غريغور سامسا ساعات حبيس فراشه لا يقوى الحراك بعد أن تحول إلى حشرة عملاقة. لم يغادر الغرفة إلا لمامًا، ولم نتركه ونحن نسمع حكايته ومأساته مع أهله وكيف تصرفوا في الأيام التي تلت تحوله. تردت أوضاعهم المادية لقعوده عن العمل، وتفاقمت مأساته وكرههم له. لم تتحسن حاله، ولم يعد إلى بشريته. وهذا هو الفارق الأكبر بين القصتين ومآلاتهما، بين الرائد كوفالوف وبين غريغور سامسا.

لو قارنا التشابه بين البطلين في تأثرهما بهذا التغير الحاصل لهما، فأوضح تقارب بينهما هو الشك بوجود معضلتيهما في جسديهما. كلاهما شكا أول ما اكتشفا ذلك الصباح. كان الرائد كلما وجد مرآة تفقد فيها موضع أنفه الفارغ ليتأكد، بل حتى رأى أنفًا يقود عربة بلباس رسمي وحادثه، لكن أنكر ذاك أنه أنف. وما هذا ربما إلا من تخيلات الرائد الذي شك لاحقًا أنه كان في حلم، أو أنه أكثر من شرب الكحول فأثرت على سلامة عقله. وأما غريغور سامسا فأول ما لاحظ عجزه عن التحرك فكر في عمله وأنه سيتأخر عن موعد القطار ويخصم من مرتبه. قضى ساعات وهو يحاول النزول من فراشه ألا يسأل مديره عنه ويغضب على تأخره، وما هذا إلا من شكه بأنه سيبقى هكذا. كان غريغوري يتحين كل فرصة في بداية القصة أن سيعود إلى حاله الأولى، لكن لا أمل يرتجى.

* *

نشرت قصة الأنف للمرة الأولى في عام 1836 للميلاد، بينما قصة التحول فنشرت عام 1915. فالفارق الزمني بينهما كبير، قرابة الثمانين عامًا، وهذا يعطي السبق لنيقولاي في الابتكار وفي طرق الفكرة. رغم جهلي إن كان كافكا قرأ الأنف قبلما يكتب تحوله أو لا –ويحق لي الافتراض أنه قرأها— إلا أن الفضل الأكبر في طرح الفكرة يعود إلى نيقولاي غوغول.

مع ذلك، يجدر القول أن الثيمات في القصتين مختلفة عن بعضهما، وكل كاتب عالج قضايا مختلفة عن الآخر رغم تشابه فكرة المعضلة نفسها. لكن ما جعلني أربط بين القصتين هو التشابه في الفكرة، في معضلة التغير في الجسد عند البطل بمجرد تيقظه. وهذا عادة من أكثر ما يشدني كلما قرأت قصة ورواية: أن أفكر في مثيلاتها وشبيهاتها وأقارب بينها.

ومن صدف التشابه بين العملين، أن نيقولاي غوغول يكتب بالروسية وهو من أوكرانيا، وفرانز كافكا يكتب بالألمانية وهو من التشيك. طبعًا هناك تفسير منطقي وطبيعي لهذا بالنظر إلى جغرافية الدول والامبراطوريات تلك الأزمان، لكن لن أتطرق إليه حتى لا يفسد التشابه. مات غوغول في الثانية والأربعين من عمره، بينما كافكا فمات في الأربعين. لو تأخر كافكا سنتين في موته لخرجت بصدفة أخرى.

* *

قرأت قبل أشهر رواية أحدث من هاتين القصتين وأعصر –إن حق لي قول هذه الكلمة— نشرت في عام 1985 للميلاد للكاتب الفرنسي إيمانويل كارير. وجدت في بداية معضلة بطلها تباينًا بسيطًا عن قصة الأنف، كأنه تطور لقصة بطل تيقظ من نومه بتغير في جسده...

قرر بطل رواية "الشارب" أو "الشنب" حلاقة شنبه ذات صباح ليمازح زوجته التي لم تعرفه إلا بشاربه. وحين فقد شعر ما بين أنفه وفمه، لم تعره زوجته أي اهتمام. ظنها تمازحه لكنها أنكرت لاحقًا أي تغير في شكله. صار يشك في إن كان لديه شنبًا قد حلقه اليوم! ودخل في دوامة يريد أن يثبت أنه بالفعل خسر شاربه.

الفرق هنا عن تلك القصتين هو أنه اختار هذا التغير في جسده ذلك الصباح، هو من فعل هذا التغيير بنفسه الذي أوقعه في ورطة وجودية. وهنا نجد فارقًا أساسيًا في القصص المعاصرة عن القديمة؛ البطل في كثير من الأحيان يلج إلى معضلته بفعله هو؛ لا لقدر مبهم أوقعه ولا قوة غامضة لا ندري ما هي سحبته. القارئ المعاصر صار يقتنع أكثر بقصص الأبطال الفاعلين المغيرين، لا أمور خارجة عن إرادتهم ورطتهم فيما هم فيه. كأن الإنسان المعاصر يؤمن بمسبب مقنع، بدافع محسوس.

أخذت قصة الأنف المنحى الساخر مجتمعيًا بطبقيته وفساده، وكرست قصة التحول دراما الفرد ومأساته وقيدته، وجردت رواية الشارب النفس عن الروح والعقل.

 

الأنف والشارب عضوان لصيقان. بدلًا من أن يفقد البطل أنفه فقد شاربه، وهذا تشابه ليس بهين. بل تشابه العملان حتى بالعنوان؛ كأن إيمانويل شطب الأنف وأبدله بالشارب. العجيب أن البطل في الرواية لم يذكر له اسم، تسرد لنا الحكاية عن هذا البطل ونعرف أفكاره وما يشعر به دون أن نعرف اسمه. لا تزوير اسم أو لقب مدعى، ولا خسارة اسم – كما في قصة الأنف. فقط: بطل لا اسم له.

 

ذو القعدة 1446

Commenti


Non puoi più commentare questo post. Contatta il proprietario del sito per avere più informazioni.

© جميع الحقوق الفكرية محفوظة لصاحب الموقع

bottom of page