الكاتب والترجمة: ما حاجته منها؟
- عمر الجضعي
- Jun 25
- 3 min read
وجدت لقاء مصورًا للكاتب الكتالوني كارلوس زافون في مسرح أمام جمهور من القراء. سألته إحدى الحاضرات عن رواياته المترجمة للغات الأخرى وخوفها أن كونها قرأتها بغير لغته الأصلية التي كتب بها جعلها تخسر من روح نصوصه المحببة إليها. تحدث في جوابه عن حرصه في عمله مع مترجم نصوصه إلى الإنجليزية، وأنه واثق أن النص الإنجليزي مطابق للنص الأصلي في نقل المعنى؛ لكنه لا يعرف عن اللغات الأخرى البعيدة عن لغات أوروبا، ولا يدري عن مدى إتقان مترجميها، ولا سبيل لديه ليعرف – قالها حائرًا وكأنه يعتذر للقارئ العالمي إن وصلته ترجمة ليست جيدة لأي من رواياته.
وأما الكاتب الياباني هاروكي موراكامي، فذكر في إحدى مقالاته عن ارتياحه مع مترجمه فيليب جابريل الذي ينقل نصوصه من اليابانية إلى الإنجليزية، والتي عادة ما يخفق مترجموها في نقل حوارات الشخصيات اليابانية، وأنه صار لا يعتمد إلا عليه. بينما الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو، فكانت زوجته بيلار ديل ريو هي من يترجم رواياته إلى الإسبانية أولًا، ثم تتلوها الترجمات إلى اللغات الأخرى، وأظنه كان موقنًا بأصالة ترجمة زوجته وفهمها لمراده من نصوصه.
أما نحن معشر القراء، ففي قراءة الروايات والقصص المترجمة نحرص على معرفة المترجم الذي نقلها إلى العربية، وصرنا نبالغ في ذلك حتى تداولنا فيما بيننا أسماء المترجمين في توصياتنا للكتب الكلاسيكية؛ مثل قول بعضنا اقرأ ترجمة سامي الدروبي للأعمال الروسية، أو اقرأ ترجمة صالح علماني للأعمال المكتوبة بالإسبانية، أو احذر من ذلك المترجم—(املأ الفراغ بمن تريد!) وهكذا. أما في النصوص الحديثة، والتي عليها قيود الملكية الفكرية في الترجمة، فتقل التوصيات؛ بل نتحسر إن اختار الناشر المالك لحقوق الترجمة للعربية مترجمًا لا نفضله أو نعرف كثرة أخطائه، أو تعدياته المتجاوزة على النص الأصلي. نصير حينها نتمنى لو أنه اختار مترجمًا أجود، أو أن ناشرًا آخر من فاز بحقوق الترجمة والنشر في العالم العربي.
أجد أن القارئ والكاتب يتشاركان في قلقهما مع الترجمة، بل ينتاب الكاتب هاجس مضاعف عندما تترجم رواية له إلى لغات أخرى؛ خصوصًا إلى اللغة الإنجليزية بسبب انتشارها. فيجعله يحرص في معرفة من سيترجم نصه إلى أي لغة، ويسأل رأي من قرأها حتى يتفادى نفس المترجم مستقبلًا لو كانت ترجمته ضعيفة. أما القارئ إن وقعت يداه على ترجمة سيئة، سيتحسر لكن لن يشعر بجهد قام به وأفسد عليه غيره. وهذه مأساة أهون من مأساة الكاتب.
عندما يترجم الكاتب –
من الوصايا التي تعطى للكتاب المبتدئين لما لها من أثر في رفع ملكة الكتابة عندهم، هي ترجمة نصوص غيرهم إلى لغتهم أو منها؛ لأن هذا الفعل يزيد من مهارتهم في تفكيك النصوص ومعرفة بناء الجمل السردية لجعلها مشوقة أكثر. بل كثير من الروائيين يترجمون أعمال غيرهم وينشرونها وهم ليسوا مترجمين حرفة باختصاص جامعي وشهادة مبروزة؛ مثل هاروكي موراكامي الذي ترجم أعمال سالينجر إلى اليابانية, وهناك فيتزجيرالد ونوباكوف، الكاتبان المعروفان، ترجما إلى الإنجليزية. وقرأت عن الكاتب الإيرلندي صامويل بيكيت أنه كتب بعض مسرحياته بالفرنسية وترجمها بنفسه إلى الإنجليزية – إضافة إلى ترجمته لأعمال كتاب فرنسيين آخرين.
الكتابة والترجمة عملان لصيقان؛ لكن مع ذلك عندما يترجم الكاتب في الزمن المعاصر يحاط بانتقادات ولوم كأنه تعدى على عمل المترجمين وأفسد عليهم أو نافسهم؛ كأن الترجمة حكر على أصحاب شهادات جامعية محددة. وهذا أراه خلطًا عجيبًا. لو أن أحدًا أراد أن ينحت أو يرسم أو يكتب حتى، لن يقف له أحد من أصحاب هذه المهن وينهره أو يقول له: تخطيت حدودك، أو أين شهادتك! لكننا نجد هذا في حقل الترجمة فقط. كل أصحاب تلك الحرف، وحرف غيرها أيضًا، يرحبون بمن يشاركهم فعلهم وينتج مثلهم.
ذكر هاروكي موراكامي معاناته مع المترجمين أكثر من مرة في مقالاته. وذلك عندما اختار أن يترجم من الإنجليزية إلى اليابانية. قوبل فعله هذا بالرفض؛ لأنه لم يدع الترجمة للمختصين أصحاب الشهادات، وأنه يستهين بالترجمة وثقلها – مع أن الترجمة الأدبية هي كتابة في لبها والكاتب هو الألصق بالترجمة من غيره. وأما نقل النص من لغة إلى أخرى فلا يحتاج إلى شهادة حتى يسمح لك بفعلها. ربما الأنواع الأخرى من الترجمة تحتاج إلى مهارات خاصة لا يتعلمها الإنسان إلا عند دراستها أكاديميًا؛ كالترجمة الفورية والترجمة مع الساسة والترجمات القانونية وغيرها من تخصصات حساسة تحتاج إلى تعلم مصطلحات ودراية في عدة مجالات. لكن مع هذا، أفضل من يترجم في أي تخصص أو فن هم أهل التخصص ومحترفيه. فأبحاث علوم جراحة الأعصاب مثلًا، أفضل من يترجمها هو جراح أعصاب مختص عارف باللغة التي سيترجم منها واللغة التي سيترجم إليها. وهذا ينطبق على كل الحقول الطبية والعلمية المختصة والترجمة الأدبية كذلك. فامتلاك الروح الأدبية هي ما تجعل من يترجم النص الأدبي متمكنًا، بغض النظر عن دراسته وماذا كتبوا اسم تخصصه في شهادته الجامعية التي حصل عليها في الماضي. هذه الروح الأدبية للترجمة هي خصلة أصيلة عند الكتاب المجيدين. بعض المترجمين يشاركونهم هذه الخصلة، لا أنكر ذلك، لكن هذا لا يجعل الترجمة حكرًا عليهم.
ربما الفضل المنشود من أن يعمد الكاتب إلى ترجمة ما يستطيع دون تعد على أي ملكية فكرية يتعدى مساوئ سماع التذمر والنقد والحسد من بعض الناس. هذا ما واصل موراكامي فعله في تخصيص وقت للترجمة ضمن برنامجه اليومي.
ذو الحجة 1446


Comments